عندما يذهب الغرباء إلى النوم
هذا البلد حزبان، حزب طويلي العمر، وحزب قصيري العمر
والحكم فيه رهان.
رهان طويلي العمر على قصر عمر قصار العمر. قهرا أو سهوا.
ولا يزال الرهان ناجحا.
يزداد طويلو العمر في العمر طولا، ويغادر قصار العمر قبل أوانهم مبكرين.
ربما لعدل سماوي. فطول العمر في كفة هنا، والنبل في كفة هناك.
. . . . . . . . . .
يهل رمضان هذا العام حزينا على مائدة أكثر من عائلة في هذا البلد الحزين. لوعة الغياب تدلف إلى بيت قديم في زقاق ضيق في النعيم، و تخيم على بيت متوسط الحال في أطراف بني جمرة. جمع بينهما مصاب الرحيل المبكر لعزيز، ومراسم عزاء تزامنت في التوقيت، وإن إختلفت المسافة.
المسافة تضاءلت يومها بين الجمعية الجعفرية في سيدني حيث مجلس عزاء محمد رضا عبد الله نجم (صادق) (47 عاما)، ومأتم الشباب في النعيم حيث مجلس عزاء جمال حبيب عمران (ناصر) (48 عاما). إثنان من الرائعين قصيري العمر طويلي النبل، جمعت بينهما سيرة حلم ودرب ومنفى، وإن إختلفت القافلة.
محمد رضا، سنته الجامعية الأولى قاطنا في شقة بشارع ينبع، متفرع من شارع الأنصار، متفرع من شارع مصدق، بالقاهرة، كانت نفسها السنة التي تغير فيها إسم أهم شارع في عاصمة أخرى من شارع ولي العهد إلى شارع مصدق إلى شارع ولي العصر. فكان أن نبع الحلم بشقة ينبع. الحلم بالثورة الإسلامية ودولة المستضعفين. رفرف الحلم على محمد رضا منذئذ، فضحى من أجله بالكثير، بما في ذلك عندما تطلب الأمر والنداء، بدراسته الجامعية.
من عرف محمد رضا أحب روحا شفافة، رشيقة، في هذا الفتى الرشيق. كان رهيفا كنسمة صيف، وظل كذلك حتى في أصعب السنين.
جمال، إختط سنوات دراسته الأولى في موسكو في بداية الثمانينات، عندما كان الحلم بالثورة الإشتراكية ودولة الكادحين لا يزال متألقا. ولكن دراسته تضاربت مع صحته. آلام الرأس الشديدة لم تترك له متسعا. قال الأطباء الروس أن سببها ضيق خلقي في أوعية الدماغ الدموية تتفاقم آثاره في شتاء موسكو القاسي. إنقطع جمال عن الدراسة مضطرا ولكنه واصل الإلتزام.
من عرف جمال، عرف فيه روحا دؤوبة نشطة وإلتزاما صلبا لا يكل. (في الأيام قارسة البرودة من شتاء دمشق، حين كان بعض الرفاق يجد في ذلك عذرا للتغيب عن مكتب الجبهة، لم يكن جمال إلا على رأس الواجب يسد النقص).
لم يكتف محمد رضا وجمال إذن بالحلم، بل تبعاه بالإنتماء والعمل السياسي المنظم. لا أحسب أن إقناعهما كان صعبا. كيف يصعب أن تقنع إبن النعيم أو بني جمرة بالالتحاق؟ كل المسألة كانت في إختيار القافلة.
كان محمد رضا في قافلة أنشدت : "لم ينته المشوار يا رسالي"، وجمال في قافلة أنشدت: "طريقنا أنت تدري، شوك ووعر عسير".
للتغيير طريق، وأكثر من قافلة. وللطريق ضريبة عبور باهظة.
تعرج المنفى بمحمد رضا وطال، لأكثر من عشرين عاما، بين القاهرة وطهران فأستراليا، وتعرج الدرب بجمال بنحو ذلك بين موسكو ودمشق فالإمارات.
في 2001، عندما أعلن الحكم هنا ما سمى بالعفو العام عن المنفيين هناك، كان المشوار قد إنتهى بمحمد رضا إلى أستراليا. لم يكن في وسع محمد رضا إلا التريث في العودة. ففي عائلة من 6 أفراد أصغرهم طفلة كانت بالكاد سنة، كان هو الوحيد بينها ممن عرف أرضا إسمها البحرين. لم يكلف أحد في الدولة نفسه أن يسأل إن كان محمد رضا يستطيع العودة لحضن الوطن، وكيف، دون أفق من سكن أو عمل.
أما جمال، الذي عاد قبل ذلك في 2000 بعد "عفو" أميري في 1999، فقد جعل النظام من عودته وعودة من مثله درب شوك ووعر عسير فعلا. أضنته مشاوير البحث عن عمل. تعطيه وزارة العمل عناوين لأصحاب عمل، كان سؤالهم الدائم "كيف نوظفك وأنت فوق الأربعين؟". ولكن جمال ظل ملتزما، كان يتطوع لحل مشاكل غيره بهمة ودأب وهو الذي ليس في جيبه "حتى روبية واحدة".
في الطريق إلى الشهر الفضيل، أصيب محمد رضا بنزلة برد في سيدني التي كان لا زال الوقت فيها شتاء. أعطاه الطبيب بعض الأدوية وأوصاه بالراحة. عاد محمد رضا للبيت وطلب من زوجته أن تذهب هذه المرة هي لإحضار الأطفال. عندما عادت، كان هذا الغريب قد أغمض عينيه.
بعده بيوم، كان جمال، الذي كان أمرا محرجا لأصدقائه سؤاله عن عمله أم عن صحته في الشهور الأخيرة، يخسر معركته الأخيرة مع الداء الخبيث، لتفيض روحه إلى واد غير ذي شوك، وغير وعر عسير.
. . . . . . . . . .
في 2002، بعد لقاء بين وفد من قدامى المنفيين ورئيس الوزراء بشأن مطالب لهم ومعاناة، قال أحد المتشائمين أن إنطباعه بأن هذه حكومة تراهن على عامل الوقت، الذي سيتكفل برفع المعاني قبل رفع المعاناة وينهي قائمة المطالبين قبل أن تنتهي قائمة المطالب. لا حاجة لفعل أي شيء.
رهان طويلي العمر على قصر عمر قصار العمر. قهرا أو سهوا.
ولا يزال الرهان ناجحا.
يزداد طويلو العمر في العمر طولا، ويغادر قصار العمر قبل أوانهم مبكرين.
ربما لعدل سماوي. فطول العمر في كفة هنا، والنبل في كفة هناك.
. . . . . . . . . .
يهل رمضان هذا العام حزينا على مائدة أكثر من عائلة في هذا البلد الحزين. لوعة الغياب تدلف إلى بيت قديم في زقاق ضيق في النعيم، و تخيم على بيت متوسط الحال في أطراف بني جمرة. جمع بينهما مصاب الرحيل المبكر لعزيز، ومراسم عزاء تزامنت في التوقيت، وإن إختلفت المسافة.
المسافة تضاءلت يومها بين الجمعية الجعفرية في سيدني حيث مجلس عزاء محمد رضا عبد الله نجم (صادق) (47 عاما)، ومأتم الشباب في النعيم حيث مجلس عزاء جمال حبيب عمران (ناصر) (48 عاما). إثنان من الرائعين قصيري العمر طويلي النبل، جمعت بينهما سيرة حلم ودرب ومنفى، وإن إختلفت القافلة.
محمد رضا، سنته الجامعية الأولى قاطنا في شقة بشارع ينبع، متفرع من شارع الأنصار، متفرع من شارع مصدق، بالقاهرة، كانت نفسها السنة التي تغير فيها إسم أهم شارع في عاصمة أخرى من شارع ولي العهد إلى شارع مصدق إلى شارع ولي العصر. فكان أن نبع الحلم بشقة ينبع. الحلم بالثورة الإسلامية ودولة المستضعفين. رفرف الحلم على محمد رضا منذئذ، فضحى من أجله بالكثير، بما في ذلك عندما تطلب الأمر والنداء، بدراسته الجامعية.
من عرف محمد رضا أحب روحا شفافة، رشيقة، في هذا الفتى الرشيق. كان رهيفا كنسمة صيف، وظل كذلك حتى في أصعب السنين.
جمال، إختط سنوات دراسته الأولى في موسكو في بداية الثمانينات، عندما كان الحلم بالثورة الإشتراكية ودولة الكادحين لا يزال متألقا. ولكن دراسته تضاربت مع صحته. آلام الرأس الشديدة لم تترك له متسعا. قال الأطباء الروس أن سببها ضيق خلقي في أوعية الدماغ الدموية تتفاقم آثاره في شتاء موسكو القاسي. إنقطع جمال عن الدراسة مضطرا ولكنه واصل الإلتزام.
من عرف جمال، عرف فيه روحا دؤوبة نشطة وإلتزاما صلبا لا يكل. (في الأيام قارسة البرودة من شتاء دمشق، حين كان بعض الرفاق يجد في ذلك عذرا للتغيب عن مكتب الجبهة، لم يكن جمال إلا على رأس الواجب يسد النقص).
لم يكتف محمد رضا وجمال إذن بالحلم، بل تبعاه بالإنتماء والعمل السياسي المنظم. لا أحسب أن إقناعهما كان صعبا. كيف يصعب أن تقنع إبن النعيم أو بني جمرة بالالتحاق؟ كل المسألة كانت في إختيار القافلة.
كان محمد رضا في قافلة أنشدت : "لم ينته المشوار يا رسالي"، وجمال في قافلة أنشدت: "طريقنا أنت تدري، شوك ووعر عسير".
للتغيير طريق، وأكثر من قافلة. وللطريق ضريبة عبور باهظة.
تعرج المنفى بمحمد رضا وطال، لأكثر من عشرين عاما، بين القاهرة وطهران فأستراليا، وتعرج الدرب بجمال بنحو ذلك بين موسكو ودمشق فالإمارات.
في 2001، عندما أعلن الحكم هنا ما سمى بالعفو العام عن المنفيين هناك، كان المشوار قد إنتهى بمحمد رضا إلى أستراليا. لم يكن في وسع محمد رضا إلا التريث في العودة. ففي عائلة من 6 أفراد أصغرهم طفلة كانت بالكاد سنة، كان هو الوحيد بينها ممن عرف أرضا إسمها البحرين. لم يكلف أحد في الدولة نفسه أن يسأل إن كان محمد رضا يستطيع العودة لحضن الوطن، وكيف، دون أفق من سكن أو عمل.
أما جمال، الذي عاد قبل ذلك في 2000 بعد "عفو" أميري في 1999، فقد جعل النظام من عودته وعودة من مثله درب شوك ووعر عسير فعلا. أضنته مشاوير البحث عن عمل. تعطيه وزارة العمل عناوين لأصحاب عمل، كان سؤالهم الدائم "كيف نوظفك وأنت فوق الأربعين؟". ولكن جمال ظل ملتزما، كان يتطوع لحل مشاكل غيره بهمة ودأب وهو الذي ليس في جيبه "حتى روبية واحدة".
في الطريق إلى الشهر الفضيل، أصيب محمد رضا بنزلة برد في سيدني التي كان لا زال الوقت فيها شتاء. أعطاه الطبيب بعض الأدوية وأوصاه بالراحة. عاد محمد رضا للبيت وطلب من زوجته أن تذهب هذه المرة هي لإحضار الأطفال. عندما عادت، كان هذا الغريب قد أغمض عينيه.
بعده بيوم، كان جمال، الذي كان أمرا محرجا لأصدقائه سؤاله عن عمله أم عن صحته في الشهور الأخيرة، يخسر معركته الأخيرة مع الداء الخبيث، لتفيض روحه إلى واد غير ذي شوك، وغير وعر عسير.
. . . . . . . . . .
في 2002، بعد لقاء بين وفد من قدامى المنفيين ورئيس الوزراء بشأن مطالب لهم ومعاناة، قال أحد المتشائمين أن إنطباعه بأن هذه حكومة تراهن على عامل الوقت، الذي سيتكفل برفع المعاني قبل رفع المعاناة وينهي قائمة المطالبين قبل أن تنتهي قائمة المطالب. لا حاجة لفعل أي شيء.