ظلّ أقل ... في وداع صاحب الصوت الخفيض
تؤجل أصدقاءك ريثما ترسو إلى يابسة.. لكن أشرعة رحيلهم الأخير إلى الغروب لا تنتظر... فتفجع – وسط تلاطمك- مرتين...
. . . . . .
"كأن سحب الأقدار لم تعد تهطل إلا بالفاجع فيمن نحب، من أولئك الرائعين الذين يعطون للوطن معنى وظلا، واحدا بعد آخر.
كأن السيارة البيضاء التي كانت تسابق الوقت ولهيب القيظ للعودة للأهل والبيت بعد نهاية يوم عمل، لكأنما كانت تسابق الفجيعة فلم تسبقها. شيء ما أدى لإنزلاقها على الطريق واصطدامها بشاحنة. الحادث المروع يودي على الفور بحياة واحد من أبناء الوطن الرائعين، المنفيين عنه طويلا، المهمومين بهمه دائما، العاشقين لحقه في الحرية والكرامة أبدا.
ثمة عائلة صغيرة لا نعلم كيف سيتأتى لها الصبر والسلوان على رزيتها الفادحة في الأب الذي لا يعوض. ثمة وطن لا يعلم أي طراز نادر من مناضليه قد ودّع.
عاش عبد الأمير العرب الشطر الأكبر من شبابه منفيا، كابد بلاء المنفى، وهو بلاء تطول مدته ويدوم مقامه، ولكنه حمل معه همّ الوطن حيثما حلّ ودار مع حق الوطن حيثما دار. وبعد عودته من المنفى الصعب في الزمن الصعب، من عمره كما من عمر الوطن، لم تشأ حكومة هذه الأرض أن تجعل ظروفه، أو ظروف الوطن فضلا عن ظروف سائر المنفيين، أقل صعوبة. الشركة التي نشرت بيان تعزية فيه حيث لقي مصرعه الفاجع في السيارة التابعة لها أثناء أدائه مهمة عمل لها، هي ذاتها التي لم توافق إلا بعد لأي وعلى مضض على رجوعه للعمل لديها، ثم أصرت على أن يعود للعمل في الوظيفة ذاتها وإلى الراتب المتواضع ذاته الذي كان عليه قبل ربع قرن. غير أنه برغم وطأة ظروفه الحياتية، لم ييأس ولم يهن، فبقي حاملا للراية، متمسكا بالقضية، مشاركا نشطا في فعالية بعد أخرى.
غير أن ذلك كله هو الجانب العادي من حياة عبد الأمير. الجانب غير العادي هو معدنه الفذ.
يقال كلام كثير في ذم السياسة والمشتغلين بها. في أنها كما الفلوس، تغير النفوس وتعميها. والأمثلة كثيرة وحاضرة في الذهن لمن تنكبوا لصفاء سيرتهم الأولى، وتنكروا لقضيتهم ونقاء سيرتهم الأولى، لمن أخذتهم العزة بالنفس وبالتنظيم إلى مدارج التعالي على ناسهم وأهليهم، أو لمن اكتشفوا فجأة واقعية جديدة تنأى بهم عن الطريق الوعر نحو ضياء العدل والحرية إلى طريق سانحة أقصر إلى أضواء الصدارة والوجاهة والصيت.
عبد الأمير العرب كان نقيضا رائعا لكل ذلك. بل وشاهد إثبات على كل ما هو مضيء ونبيل في النضال السياسي. خال من التباهي والإدعاء. حافظ على صفاء سريرته الأولى. لم يستوحش طريق العمل الصامت لقلة سالكيه. عمل بصمت. وضحّى بصمت. بصدق. بدون إدعاء. صوته الهادئ الخفيض معبر عن نفسه الهادئة المتواضعة والدماثة الرفيعة التي عرفها كل من عرفه. لم تطأ قدماه يوما بازار التسلق السياسي. لم يبع أو يشتر بتاريخه وتاريخ رفاقه. تراه بعد زمن فيحييك بمحبة، يتناقش معك بهدوء، يختلف معك بودّ، ويودعك بطيبة آسرة. بدأ صادقا وإنتهى صادقا، وما بدل تبديلا. يذكرك بأن الدين في الأصل سماحة وصفاء. وأن السياسة هي في صدق التواضع، لا فن التواضع. آه، كم ستفتقد ذلك التواضع الصافي وتلك الطيبة الآسرة".
. . . . . .
(بتصرف عن بيان لقدامى المنفيين السياسيين في نعي رفيق درب المنفى الطويل عبد الأمير العرب، ونشر على منتديات محلية).