September 02, 2006

كم سألنا ونحن بنجد

لو قلت عنه أنه فذ، فأنت لا تبالغ.

لو قلت بأن قامته الفكرية والأدبية أشبه بالطود الشامخ، فأنت لا تبالغ.

لو قلت بأن من حق جزيرة العرب أن تفاخر وتفتخر به، فأنت لا تبالغ.

في الشعر، قد لا يكون من فحول الطبقة الأولى، ولكنه لا يبعد كثيرا، في أحيان كثيرة، عنهم.

في الرواية، قد لا يضاهي ثلاثية محفوظ أو خماسية منيف، غير أن نسجه الروائي يقرب، أحيانا، من التفرد.

أما في موسوعية العقل والفكر والنظر، فلا خلاف على مكانته ولا جدال.

فهو ليس مجرد شاعر، أو روائي وأديب، بل أكاديمي وإداري من الدرجة الأولى، ووزير من الدرجة الممتازة، ومفكر من الدرجة النفاثة.

في الكتابة ذات البعد الاستراتيجي والقرب من مركز القرار، كثيرا ما عقدت المقارنات بينه وبين محمد حسنين هيكل، حتى لقب بهيكل هذا الجزء من العالم، وهي مقارنة قد يراها الطرفان مجحفة، لكليهما.

فيه تلتقي الحضارات وتتحاور، وتتجاور الحداثة المعولمة فيه مع العراقة المحلية، وتختصم.

يستطيع أن يرد سهام التايمز اللندنية وعوض القرني من حيث جاءت، دون أن تلين له قناة.

بوسعه أن يثخن الجراحات في عتاة المحافظين الجدد وغلاة المتزمتين القدامى، دون أن يترجل من صهوة جواد.

ليس باحثا عن كنز، بل هو صاحب أسهم من الدرجة الأولى في أعظم كنز عرفه التاريخ.

( الفضل يعود للوالد الذي راهن ذات يوم على مغامر طموح لم تعيه الحيلة ولكن أعياه بخل الحكومة البهية البريطانية ذات أشهر حاسمة، فأقرضه. حفظ أبناء ذلك المغامر النجدي لأبناء التاجر الهجري هذا الجميل الحاسم، حتى يومنا هذا).

سهل ممتنع، لا يميل إلى مزاح سهل مع الملك الصديق، بل يترك صغيره سهيل يمازحه، أما إذ يمتنع في يوم غير ذي صحو، فالبرق والرعد لألف واش ينعب.

المشككون في وجود أرستقراطية نبيلة وعريقة في وهاد الجزيرة العربية بوسعهم التوقف لديه، أما الباحثين عن الأقرب إلى صاحب سمو ملكي، فلهم أن يتجاوزوا حملة اللقب إليه.

شابا، دنى وتدلى من قلب الجموح النابض على النيل، حتى رأى الإمبراطور الجامح عاريا.

وهاله ما رأى. إذا كان جل ما يبحث عنه كل هؤلاء الثائرين هو بعض ما هو فيه، فعلام يعتام النضال ويعثر؟

بقي نظيف اليد. إكتشف لاحقا كوزير للصحة عمولات سامية لأصحاب السمو الملكي على دواء الناس وصيدلتهم، فلم يتراجع. كتب "قصيدة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة" وأقيل.

كهلا، عاد إلى هوى نجد، مسخرا لنجدة نجد.

لم يكن شاعر القبيلة، بل القبيلة بعينها. لم تكن القبيلة الصغرى قبيلته، بل نجدا الكبرى، نجد القبيلة والأرومة والعقيدة والكنز العظيم. يدور نصل القلم معها حيثما دارت، سلم لمن سالمت، حرب لمن حاربت. بات السيف الايديولوجي الأكثر مضاء في الدفاع عنها، وعلى الباغي تدور الدوائر.

(إبان غزو الكويت، عندما بدا أن نجدا الكبرى باتت في دائرة الخطر، إنطلق سهم "أزمة الخليج محاولة للفهم" فكان الأدق في تحليل شخصية صدام حسين، وكان أفدح على هامة الرئيس المغامر من وقع الحسام المهند).

غير أن سؤالا ظل يخامر نخلة من أوال، لمحته يافعا وصغيرا، وسمعته متغنيا أيام الصبا:

"أرضي هناك، مع الشواطئ، والمزارع والسهول،

في موطن الأصداف والشمس المضيئة والنخيل،

أمي هناك، أبي رفاقي، نشوة العيش الظليل

الضوء لاح فديت ضوءك، في السواحل يا منامة

فوق الخليج أراك زاهية، الملامح كابتسامة"

عما بقي فيه من صبا نخل أوال (وهجر) في طريقه إلى صبا سيف نجد.

جاءت لها "الأيام" بقصيدته الأخيرة، بإجابته الأخيرة، بأنك قد تكون فذا وملهما، لكن دما بهذا الوضوح، يحتاج إلى معجم، طبقي وقبلي، لكي تفهمه.

4 Comments:

At 1:12 AM, Blogger BB said...

اخي العزيز...مقدمة طويلة بس ما هو تفسيرك النقدي لقصيدته الاخيره؟ كثر النقاش بس في خلاصة الموضوع هل تراها مدح او ذم؟ فأنا حتى بالمعجم لم افهم شيئاً!!!

 
At 8:29 AM, Anonymous Anonymous said...

القصد هي هذه الأبيات على غالب الظن. الغير واضح لديّ هل تفسيرك لتلك القصيدة على غير الأخ الفاضل في الرابط؟ فقرائتي لموضوعك يفيض في المدح للكاتب و المفكر القدير.... الا آخر جملة من الغموض العمد!

 
At 10:39 PM, Blogger MR said...

العزيزان بحرانية وأبا عارف، شكرا لمروركما الكريم.

قصيدة القصيبي الأخيرة فادحة ومفجعة على أكثر من صعيد.

لست بناقد، ولكن القصيدة مفرطة في ذكاء لغتها وبنائها. على المستوى الشعوري، تنسل للقلب في البدء هادئة وخافتة كتهويمة آسرة في مساء حزين، لتوارب بعدها خيطا أبيض من التهكم الملتبس يلي كل خيط حالك من السواد، حتى يباغتك النصل اللامع في ختام ليل القصيدة، تماما كشعاع داهم من الفجر، صادقا كان أم كاذبا.

أفضل ما يمكن أن تحمل عليه القصيدة من محامل، هو تفجع شاعر ستيني على حال أمة/ شريحة تفتنها إلى حد الفتك شعبوية مؤدلجة وراء زعيم "مضحك كالبكا" يلبس مسوح القديسين. وكأنما السيد الذي قدم ولده البكر شهيدا (وولده الثاني مقاتلا في الصفوف الأولى) لا يختلف في شيء عن عنترة آخر، معمر القذافي مثلا.

هذا الإزدراء الفادح لسيد قلبه على لسانه يهون مع إزدراء أفدح بالفقراء والبسطاء. فالقصيدة في إلتباسها المقصود تقدم نفسها كإمتحان إجباري في الذكاء والقدرات العقلية للنازحين، والمهدمة بيوتهم، وذوي الشهداء، والجرحى الذين ساقهم حظهم العاثر للخروج برهة من سرادق العزاء إلى طوابير المساعدات الشعرية.

ما كان أغنى القصيبي عن مثل هذه القصيدة في مثل عمره. أمام مشهد مجلل بالفجيعة كان بوسع إلتباسه أن ينتظر. لكنه، ما أغناه، آثر إلا أن يشارك الثقفيين الجدد في رمى الجنازة الجليلة بحجر. ( الألف "قتيل" الذين يتفجع الشاعر بهم هم معدل ضحايا 36 ساعة من حرب السنوات الثمان التي مولها وطرب لها صديقه الأثير الفقيد الراحل الكبير دفاعا عن نجد الكبرى).


القصيدة، كما المقالة أعلاه، تنهمك في أسطر عدة لا تقول شيئا سوى أن تصل
في النصل الأخير إلى جملة –مستعارة- منحازة تماما إلى الطبقة والقبيلة. لأن الرمال المتحركة لشبه الجزيرة العربية، التي كشف المسح الزلزالي الأخير عن أكبر مخزون جيولوجي من العقلانية الهائلة في جوفها، يبدو أن لا ثابت فوقها سوى الطبقة/ القبيلة/ وربما الطائفة أيضا.

 
At 9:54 PM, Anonymous Anonymous said...

شكراً جزيلاً على تفسيرك لمقاصد القصيدة، و الحمد لله ان هناك مثقفين يفهمون المخبأ في الأبيات من امثالك.

نعم اوافقك الرأي ان رجل بمقام القصيبي كان من المستحسن له ان تريّث على اقل تقدير او يلتزم الصمت. لكن يمكن ان المقصود هو اسفزاز المثقفين الذين غالباً ما التزموا بالصمت هم في هذه الحوادث.

شكراً تكراراً أخي العزيز.

 

Post a Comment

<< Home